كتاب من عنوانه يعرض براهين نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ويناقش اعتراضات المعترضين. وفي هذا المنشور أعرض المقتطفات التي انتقيتها من الكتاب، وهي لا تعتبر ملخصاً للكتاب ولكل الجوانب التي تناولها، لكنها الأشياء التي أحسست بأهميتها الأكبر من وجهة نظري. الكتاب أكثر من 600 صفحة وهذا الملخص صفحات قليلة، لذا ستجد في الكتاب معلومات وتفاصيل أكثر.

المؤلف أتاح تحميل الكتاب كاملاً مجاناً من هنا: https://almobadarah.com/books/baraheen.ar.pdf.

صفحة الكتاب على موقع Goodreads الخاص بالكتب: براهين النبوة والرد على اعتراضات المستشرقين والمنصرين.

حفظ القرآن والسنة

لقد شهد لميزة حفظ السيرة النبوية في تاريخ الأنبياء المستشرق بنيامين بوزمورث سمث - أحد أساقفة الكنيسة المشيخية في أمريكا - حيث ذكر في كتابه (محمد والمحمدية) أننا لا نعلم الكثير عن حياة موسى وعيسى وبوذا وغيرهم أما الإسلام فأمره كله واضح وفي أيدي الناس تاريخه الصحيح ويعلمون من أمر محمد صلى الله عليه وسلم الكثير. ص77.

شهادة المستشرق اليهودي برنارد لويس المعروف بمواقفه السلبية من الإسلام: «…ولكن نقد علماء الحديث الدقيق للأسانيد وجمعهم الدقيق للاختلافات… يعطي لعلم التأريخ العربي في القرون الوسطى مهنية ومراساً لا نجد له نظيراً في القديم ولا مماثلاً في القرون الوسطى في الغرب… بل حتى علم التاريخ في العالم المسيحي اليوناني، والذي هو أكثر تقدماً وتعقيداً، يقصر هو أيضاً عن مضاهاة الأدبيات التاريخية الإسلامية من نواحي الحجم والتنوع والعمق التحليلي». ص81.

شهادة المؤرخ النصراني اللبناني (أسد جبرائيل رستم): «أول من نظم نقد الروايات التاريخية ووضع القواعد لذلك علماء الدين الإسلامي، فإنهم اضطروا اضطراراً إلى الاعتناء بأقوال النبي، وأفعاله لفهم القرآن وتوزيع العدل… فانبروا لجمع الأحاديث ودرسها وتدقيقها فأتحفوا علم التاريخ بقواعد لا تزال، في أسسها وجوهرها، محترمة في الأوساط العلمية حتى يومنا هذا». ص82.

السيرة لم تؤلف في القرن الثالث الهجري، وإنما قد ازدهر فيه جمع أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم في مؤلفات علمية تخصصية بأسانيد يبلغ طرفها الآخر الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه الأسانيد يمكن الحكم عليها وفق الأصول التي وضعها عباقرة أهل الحديث. وقد نقل العلماء كل ما وصل إليهم سواء كان صحيحاً أو ضعيفاً أو حتى موضوعاً.

‏أبعد الناس عن إحسان الظن برواة الأخبار هم علماء الحديث، ‏إذ يمكن القول أن علم الحديث قائم في الحكم على الرواة على سوء الظن بالرواة لا التسليم الأولي بعدالتهم، حتى قال الإمام المحدث (عبد الرحمن بن مهدي) في القرن الثاني الهجري: «خصلتان لا يستقيم فيهما حسن الظن: الحكم والحديث». قال الإمام (ابن القطان): «لم نر أهل الخير في شيء أكذب منهم في الحديث» فلم يكن هم المحققين من المحدثين تصحيح روايات أهل الورع والصلاح. ص88-89. ولم يقتصر علماء الحديث على تقسيم الرواة إلى ثقات وضعفاء وإنما ميزوا الثقات إلى طبقات، والضعفاء رتبوهم في دركات.

حديث: «من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار» رواه بضعة وسبعون صحابياً، منهم العشرة المبشرون بالجنة، ولم يرو حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكثرة. كما روى أربعة وعشرون صحابياً حديث: «نضر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها، فبلغها من لم يسمعها» وهو في الحض على الرواية الصادقة التي تذيع خبر الوحي.

اعترف المنصّر (ويليام موير) قائلًا: «قرآنٌ واحد كان سائدًا بين المسلمين، والاستخدام المتزامن لنفس السّفر من جانبهم جميعًا في كل عصر حتّى يومنا هذاء هو دليل حاسم أن ما بين أيدينا الآن هو النص عينه الذي تمّ إعداده بأمر الخليفة المظلوم. يبدو أنّه لا يوجد أي عمل آخر ظل اثني عشر قرنا بهذا النقاء كنص». [من كتاب Life of Mohamet: from original sources]

الاتفاق حاصل بين جميع علماء النقد النصيّ أنه لا سبيل للوصول بطريق مباشر أو من خلال التراث الشفهي أو المخطوطات إلى نص التوراة، بالإضافة إلى أنّنا نملك ثلاث روايات متأخرة ومختلفة للتوراة في عدد من نصوصها: التوراة العبرية، والتوراة السامرية، والترجمة السبعينية اليونانية. وأما العهد الجديد (الإنجيل مجازًا) فقد انتهت (Institut für neutestamentliche Textforschung) - أهم مؤسسة علميّة عالميّة مهتمة بتركيب أفضل نص يوناني للعهد الجديد ‏- في نسختها اليونانية الأخيرة (NA 28) إلى أن آخر رجائها في البحث التاريخي النقدي أن تصل إلى أقدم نص ممكن للعهد الجديد لا النص الأصلي، لامتناع استعادة النص الأوّل. البحث التاريخي أثبت وجود العديد من الأخطاء في العهدين القديم والجديد، بعضها مذكور ص544 وما بعدها.

الكتاب المقدس وفقدان الأسانيد: يتكون الكتاب المقدس من 66 سفراً عند البروتستانت أو أكثر عند الكاثوليك والأرثودكس. وهذه الأسفار كلها بلا استثناء فاقدة للإسناد المتصل، بل هي عند التحقيق بلا إسناد أصلاً.

علم المستشرقون - بداهة - أن قبول السيرة كلية أو بالجملة لا بد أن يؤول إلى الإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك كان مبدأ النظر الاستشراقي في السيرة البحث عن بدائل غير الميراث الحديثي، وقد تولى كبر هذا الأمر (إجناتس جولدتسيهر)، ثم اتسع الأمر وتفرعت مسالكه. ولا يملك القارئ الجاد إلا العجب من هذه البدائل التي يطرحها المستشرقون بعدما ردوا الروايات المسندة المصفاة من كدر الشبهة، فهي مراجع صامتة لا تُبين، أو مشبوهة لا تستأمن على خبر التاريخ وعلى رأسها:

  1. الكتابات المبكرة لغير المسلمين: رغم إغراء العثور على مصدر تاريخي خارجي “محايد” في قراءة التاريخ الإسلامي، إلا أن هذا المذهب فاسد من أوجه كثيرة أهمها:
    • المصادر غير الإسلامية المبكرة لا تكاد تقدم معلومات تاريخية تذكر عن الإسلام، وإنما هي عبارات قليلة جداً، وعامة جداً. ولعل النظر في أكبر مؤلف اليوم قام بجمع الشهادات غير الإسلامية المبكرة، وهو: Seeing Islam As Others Saw It، يشهد بوضوح لما نقول؛ فالشهادات التي جمعها لا تكاد تدل على غير وجود دين جديد ظهر في بلاد العرب، وأن أصحاب هذا الدين يغزون الأمم المجاورة.
    • الكتابات المذكورة قائمة على السماعات البعيدة والإشاعات، وليس فيها شيء تقريباً من البحث التاريخي والتحقيق العلمي المعتبر، خاصة أنها كتبت بيد رجال عاشوا خارج دولة الإسلام لم يخالطوا المسلمين بصورة مباشرة، ولا يعرفون اللغة العربية.
    • الكتابات المذكورة غير محايدة، إذ عامة كاتبيها خصوم للإسلام، منهم رجال دين نصارى، وأصحاب مصالح سياسية وعرقية يرفضون الفتح الإسلامي برمته.
  2. الآثار القديمة المعاصرة للبعثة أو القريبة منها: كانت الحياة وقتئذ قائمة على المساكن البسيطة من خيام وغيرها مما لا يورث الأمم التالية شواهد واسعة من نقوش ومنحوتات تورخ للحضارات وعقائدها، إلا ما ندر في اليمن. فكيف يفلح الجهد الاستشراقي في تعقب تاريخ رجل واحد عاش قبل قيام الدولة مغموراً أو محارَباً، وبعدها في زهد بعيداً عن العمائر والدواوين الإدارية؟!
  3. الخيال والوهم التآمري: ذهب بعض المستشرقين إلى رد جميع التراث التاريخي الإسلامي. ص99.

صدق النبي صلى الله عليه وسلم

إن نفي الصدق عن (محمد) يلزم منه أن يكون هذا الرجل أعظم مفتر ومخادع سعى على الأرض؛ إذ كان يفتعل القرآن عند كل حادثة حتى إنه يأتي بأفعال وحركات شديدة بدعوى الاستجابة لعارض الوحي كما كان يفتعل الإخلاص لإفراد الربٌ بالعبادة والتمجيد وكان يخدع من يلازمه من أصحابه ويفتعل النزاهة في معاملاته ويخدع حتى نساءه في بيته بافتعال الصدق والنزاهة. خلاصة البرهان المطلوب من منكر طابع الصدق في شخصية نبي الإسلام هو أن يوضح كيف استطاع رجل ظاهره الحماسة لإفراد الربّ بالطاعة وتنزيه القلوب عن الشرك والزهد في الملاذ والسعي لصلاح معاش الناس ومعادهم - وهو الأمر الذي شهد به من عاشره في الليل والنهار والحل والارتحال والغضب والرضى والسلم والحرب والضيق والفرج - أن يبطن في قلبه عكس ذلك فهو يحب الكذب ويمعن فيه ولا يجد سبيلاً لما يريد إلا به.

يقول المستشرق المُنَصّر المخاصم للإسلام (ويليام موير): «إن من أعظم معززات صدق محمد أن أوائل المعتنقين للإسلام كانوا أقرب أصدقائه إليه وأهل بيته وهم الذين لهم صلة وثيقة بحياته الخاصة فلا يخفى عليهم ملاحظة تناقض الحال الذي لا يخلو منه - بصورة كبرت أو صغرت - المخادع المنافق عندما يكون في ملأ ويكون في بيته».

ما الذي يطمع فيه مدعو النبوة غير المجد الدنيوي والتسلط على رقاب الناس والتنعم بخيراتهم؟! فهل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم شيء من ذلك؟ انظر إلى حجراته اليوم في المدينة وقارنها بما كان لدى الأكاسرة والقياصرة، واقرأ الأحاديث الصحيحة في زهده التام في مكة وفي المدينة حين القوة ص129-130.

إنه لا تجتمع في الإنسان أمانة تامة وخديعة ماكرة، وحرص على هداية الخلق وسعي لإضلالهم.. ولذلك فثبوت الكمال الخلقي البشري خاصة خلة الصدق ينقض مخالِفَه ضرورةً.

إن الناظر في حال نبي الإسلام القائم بالليل متهجدًا بالقرآن، في خشوع وذلَ وإخبات حتّى تشققت منه القدم، لا يسعفه خيال الشكّ السادر أن يرى في روح هذا الرجل الخاشع بعض طيف الخديعة والمكر. إنه يرى روحًا تذوب مع كلمات القرآن، ومعاني التوحيد، وصور القيامة، ومشاهد البعث المهيبة.

أقوال عن النبي صلى الله عليه وسلم: لقد بحثت في التاريخ عن الإنسان النموذج ووجدته في محمد. الشاعر الألماني الكبير جوته. ربما علينا أن نتساءل - إذا أخذنا في الاعتبار كل المعايير التي من الممكن أن تؤخذ في الحسبان لقياس عظمة الإنسان - إن كان هناك أحد أعظم من محمد. الشاعر الفرنسي الكبير Alphonse de Lamartine.

معجزات النبي صلى الله عليه وسلم

المعجزات مخالفة لتجربة الإنسان مع الطبيعة وليست مناقضة لهذه التجربة، فهي من الممكنات العقلية، وإثبات المعجزة بذلك مسألة تاريخية وليس مسألة فلسفية.

عن المعجزات: إن كان المخالف لا يصدق غير الأخبار المتواترة فقد ثبت في السيرة معجزات متواترة. والتواتر هو ما رواه جمع غفير عن مثله إلى منتهاه، تحيل العادة تواطؤهم على الكذب، ويكون مستندهم الحس. وهو على نوعين: لفظي وهو ما تواتر لفظه عن الرواة، ومعنوي وهو تواتر معنى مشترك ككرم حاتم الطائي وشجاعة عنترة فهي أمور لا نشك فيها وإن كنا لا نجزم بصحة الأحداث الفردية لكرم حاتم وبطولات عنترة. ومجموع روايات معجزات النبي صلى الله عليه وسلم تصل إلى التواتر المعنوي إذ تمنع العادة أن يتواطأ هذا الجم الغفير من الرواة على الكذب في نقل خوارق نبي الإسلام. ولا يقتصر خبر معجزات النبي على تواتر جنس الخارقة، وإنما ثبت بالتواتر عدد من المعجزات المخصوصة بعينها، نقلها عدد كبير من الصحابة، وعنهم عدد أكبر من التابعين حتى مؤلفي الدواوين التي صنفت لجمع الحديث النبوي:

  • قتل عمار والفئة الباغية: تواتر عن الرسول قوله للصحابيّ «عمّار بن ياسر»: «تقتلك الفئة الباغية». ومعلوم بيقين أن «عمّارًا» قد قتلته طائفة (معاوية) بعد وفاة الرسول، سنة 37هـ، وقد بغت طائفته على الخليفة المبايع زمانه «علي بن أبي طالب».قال (السيوطي): «هذا الحديث متواتر رواه من الصحابة بضعة عشر»؛ فقد رواه (خزيمة بن ثابت) و(أبو سعيد الخدري) و(عمرو بن العاص) وابنه (عبد الله)، و(أم سلمة) و(أبو هريرة) و(معاوية)، و(عمرو بن حزم) و(حذيفة) و(أبو أيوب) و(أبو رافع) و(أبو اليّسَر) و(ابن مسعود).
  • انشقاق القمر: ثبت عن جمع من الصحابة وقوع حادثة انشقاق القمر. قال صاحب «نظم المتناثر من الحديث المتواتر»: «قال التاج ابن السبكي في شرحه لمختصر ابن الحاجب الأصلي: الصحيح عندي أن انشقاق القمر متواتر منصوص عليه في القرآن مروي في الصحيحين وغيرهما من طرق من حديث شعبة عن سليمان بن مهران عن إبراهيم عن أبي معمر عن ابن مسعود، ثم قال: وله طرق أخرى شتى بحيث لا يُمترى في تواتره. وقال في الشفا: أمَا انشقاق القمر فالقرآن نص بوقوعه. وأخبر بوجوده. ولا يعدل عن ظاهر إلا بدليل، وجاء برفع احتماله صحيح الأخبار من طرق كثيرة. وفي «أمالي» الحافظ (ابن حجر): أجمع المفسرون وأهل السير على وقوعه. قال: ورواه من الصحابة: عليّ وابن مسعود وحذيفة وجبير بن مطعم وابن عمر وابن عباس وأنس. وقال (القرطبي) في «المفهم»: رواه العدد الكثير من الصحابة ونقله عنهم الجم الغفير من التابعين فمن بعدهم. وفي المواهب اللدنية: جاءت أحاديث الانشقاق في روايات صحيحة عن جماعة من الصحابة منهم: أنس وابن مسعود وابن عباس وعليّ وحذيفة وجبير بن مطعم وابن عمر.
  • حنين الجذع: حادثة رواها جم غفير من الصحابة. قال صاحب «نظم المتناثر من الحديث المتواتر»: «أورده في الأزهار من حديث: سهل بن سعد وجابر بن عبد الله وابن عمر وأبي بن كعب وبريدة وابن عباس وأبي سعيد الخدري وأنس وأم سلمة والمطلب بن أبي وداعة السمهي، عشرة أنفس. قلت: قال عياض في الشفا: أمره مشهور منتشر والخبر به متواتر؛ أخرجه أهل الصحيح، ورواه من الصحابة بضعة عشر، ثم ذكر منهم العشرة المذكورين. وقال الحافظ ابن حجر في «أماليه»: طرقه كثيرة. قال البيهقي: أمره ظاهر؛ نقله الخلف عن السلف، وإيراد الأحاديث فيه؛ كالتكلف؛ يعني: لشدة شهرته.

القرآن كتاب يأبى التفسير المادي

قد يقول المخالف: . . نعم. . قد تحدّى القرآن المخالفين؛ واستفز نفوسهم للرد. . لكن ليس في ذلك برهان لإعجازه؛ إذ قد اجتمعت له من الأسباب التاريخيّة ما جعله كتابًا فريدًا فرادة سونيتات (شكسبير). ولكل عصر مؤلفاته الأدبيّة النادرة التي من الممكن تفسير تميّزها بخدمة الأوضاع الثقافية والاجتماعيّة لشخصيّة كُتابِها بصقل مواهبهم وتنمية ملكات الإبداع الفكري في نفوسهم. . كل شيء قابل للتفسير المادي، حتى ما يُدّعى من إعجاز القرآن! ونقول: .. بل كان القرآن في جميع أمره مخالفاً لفرادة سونيتات (شكسبير)؛ فقد تحدّى العرب أهل الفصاحة والذلاقة أن يأتوا بمثله رغم أنّ كلّ ما احتف به من تفاصيل وسياقات تاريخيّة تمنع أن يبلغ الحدّ المتوسّط من البلاغة، فضلًا عن أن يبلغ أعلى درجاتها البشريّة، فهو كتاب يأبى التفسير المادي لأمور:

  • القرآن كتاب أظهره للناس رجل أمئّ لم يجلس ليتعلّم القراءة أو الكتابة، ولا تلقّى دروسًا في صناعة الأفكار وتحبيرها، وتأصيل الدرس اللاهوتي وترتيبه. وأمًا (شكسبير) مثلاً فقد دخل المدارس وتعلّم اليونانيّة واللاتينية. وكانت الكتب متوافرة أمامه يأخذ منها ويذر، كما التقى المدرّسين المبرّزين وأخذ عنهم، وتصفّح الكتب الوفيرة واغترف منها.
  • نبي الإسلام لم يتعلّم الشعر، ولم ينظمه، ولم يشتهر به. ومعرفة الشعر وإتقانه مقدمةٌ ضرورية لدخول عالم الأدب، ولذلك جاءت الآيات في نفي معرفة الشعر عن النبيّ قاطعة للريبة ونافية للتهمة في محضر الصديق والخصم الذين عرفوا تفصيل حياته ومدارج عمره: { وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين }.
  • سونيتات (شكسبير) مثلاً لم تبلغ من الجمال مبلغًا واحدّا، وإنّما البراعة فيها تتفاوت، فمرّة تعلو، وفي أخرى تسفل دون ذلك. وأمَا القرآن، فقطعة واحدة من البيان المعجب. يقول الإمام (حازم القرطاجني) عن القرآن: «إِنَّ الإعجاز فيه من حيث استمرّت الفصاحة والبلاغة فيه من جميع أنحائها في جميعه استمرارًا لا توجد له فترة ولا يقدر عليه أحد من البشر…».
  • قال بلغاء مكّة لنبي الإسلام: إن هذا الكتاب من بنات أفكارك فتحدّاهم صراحة أن يأتوا بمثله، وأشهر هذا التحدي في كل مكان بلغه صوته. قال تعالى: { أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون. فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين }.
  • لم يزعم أحد لسونيتات (شكسبير) مثلاً صفة فوق طبيعية، فهي عند محبّى أدبه أثر عن ذكاء عقل ورهافة حس. وأمّا القرآن فقد وصفه خصوم نبي الإسلام وشانئيه أنه من جنس السحر، والسحر ليس من كسب العقول وإنّما هو عندهم - فيض من فعل كائنات خارقة هي الجنّ. ولمًا أراد واحد من زعامات الكفر أن يقول فى القرآن ما يكشف أصله، ويفضح سرّه، اجتهد كل الاجتهاد، ثم نفى بشريّته وقال بسحريّته، قال تعالى: { إنه فكر وقدر. … إن هذا إلا قول البشر }.
  • القرآن نظمٌ على طريق جديد يخالف معهود الشعر والنثر: من المعلوم أن أعسر أبواب الإبهار الأدبي أن تجعل الجديد الطريف مقبولًا مألوفًا.
  • العصر الذهبي للبيان العربي: نزل القرآن في عصر وبيئة كان الشعر فيها يخفض أقدار الرجال ويرفع، أمّة تميّزرت عن غيرها بظاهرة «شعر النقائض»: نزل القرآن في أمّة من الناس مولعة بالمعارضات الشعريّة لأشهر القصائد. وكان التحدّي القرآني بذلك يجري في مضمار تلك الظاهرة المألوفة في سوق الأدباء. ومعلومٌ عامةً أن صنائع الأدب في كلّ أمّة أنه إذا استحسنت اتبعت؛ وإذا استُملحت قصدت، فكيف والعرب في القرن السابع قد اتخذوا المعارضات الشعريّة سُنة أدبية؟!
  • كيف يكون هذا القرآن من نتاج صحراء القرن السابع ميلاديًا النائية، وهو مع ذلك يفيض خيرًا على البشريّة في مجالات التشريع إلى اليوم، ويأخذ بألباب كبار القانونيين الغربيين حتى القرن الواحد والعشرين رغم أنهم لم يلجوا أعماقه الدفينة بعد؟! نقولات عن قانونيين يصفون عظمة تشريع الإسلام ص450-451.

معارضة القرآن

نقل القرآن اعتراضات المشركين، وكرّر خبر كبيرها وصغيرها. ولو كان في المعارضات ما هو أهل لفخر أهل مكّة لشاع خبر الاستشهاد به، ولألزم القرآن أن يرد عليه، لا أن يكرّر القرآن عرض التحدّي ونقل عجز بلغاء المشركين دون نكير من المخالفين. ولذلك قال المستشرق (إدوارد هنري بلمر): «مسألة عدم نجاح أفضل الكتّاب العرب في إنتاج أي شيء قريب في الخصاصة من القرآن نفسه ليس شيئًا مفاجئًا».

ولا يصحّ تاريخيًا فى المعارضة إلا القليل النادر. وقد عاش فى بلاد المسلمين خصوم حاقدين اجتهدوا في الطعن في نبوة (محمد) صلى الله عليه وسلم، ولم يستعلن منهم واحد بكتاب معارض للقرآن رضي عنه مخالفو الإسلام في عصره وبعده، ومن هؤلاء (ابن الراوندي) الذي ألّف «الفريد» فى الطعن فى نبوّة (محمّد) صلى الله عليه وسلم والقدح في معجزاته، و«التاج» في قدم العالم، و«الزمرّد» في إبطال النبوّات، وهي كتب نشرها في العلن، وراجت بين الناس. الفرصة إذن كانت قائمة لظهور الكتاب المعارض المتحدّي للقرآن، ولرواجه إذا بدا فيه ما يستحقّ التقديم والتبجيل.

صوّر القاضي (عبد الجبار) - الذي عاش في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري وبداية الخامس انتشار كتب الزنادقة الطاعنين في الإسلام بقوله: «وانظر إلى… الكتب التي وضعها الملحدة وطبقات الزنادقة، كالحدّاد، وأبي عيسى الورّاق، وابن الراوندي، والحصري، وآمالهم في الطعن في الربوبيّة وشتم الأنبياء صلوات الله عليهم وتكذيبهم، فإنّهم وضعوها في أيام بني العباس وفي وسط الإسلام وسلطانه والمسلمون أكثر مما كانوا إذ ذاك وأشدّ ما كانوا ولهم القهر والغلبة والعز، والذين وضعوا هذه الكتب أذلَ ما كانوا، وإنّما كان الواحد بعد الواحد من هؤلاء يضع كتابه خفيًا وهو خائف يترقب، ويخفي ذلك عن أهله وولده، ولا يطلع عليه إلا الواحد بعد الواحد ممن هو في مثل حاله في الخوف والذل والقهر، ثم ينتشر ذلك في أدنى مدة ويظهر حتى يباع في أسواق المسلمين، ويعرفه خاصتهم وعامتهم، ويتحدثون به ويتقولونه ويذكرونه وقد غمّهم ذلك وساءهم، وودّوا أن ذلك لم يكن». [عبد الجبار، تثبيت دلائل النبوة].‏

ولا يذكر الناس في أيّامنا من محاولات خصوم الإسلام والمنصّرين غير الكتاب الذي أراد له أصحابه إعلان كسر الإعجاز القرآني في الشرق والغرب، والمسمّى «الفرقان الحقّ» الذي قام على الترويج له المنصّر [الفلسطيني - الأمريكي] (أنيس شروش). ثم ماذا كان من أمر هذا التحدّي الذي حشدت له الأقلام للمعارضة، والمطابع والصحافة للإذاعة والإشهار؟ لا شيء غير الفضيحة.

إعجاز بلاغة القرآن

ولما سمع (جبير بن مطعم) رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، قال عند قوله تعالى : {أَمۡ خُلِقُوا۟ مِنۡ غَیۡرِ شَیۡءٍ أَمۡ هُمُ ٱلۡخَـٰلِقُونَ. أَمۡ خَلَقُوا۟ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضَ بَل لَّا یُوقِنُونَ. أَمۡ عِندَهُمۡ خَزَاۤىِٕنُ رَبِّكَ أَمۡ هُمُ ٱلۡمُصَۣیۡطِرُونَ}: كاد قلبي أن يطير [رواه البخاري].  ويكفي في شهادة العرب الجاهليين لإعجاز القرآن قول (الوليد بن مغيرة) المشرك بعد أن سمع القرآن من فِيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد استحثه (أبو جهل) أن يقول فيه قولًَا منكرًا: «وَمَاذًا أَقُولُ؟ فوالله مَا فيكم رَجُلٌ أَعْلَمَ بِالأَشْعَار مِنّي، ولا أَعْلَم بِرَجَزه ولا بِقَصِيدَتِهِ مِنّي، ولا بِأَشْعَار الْجِن، وَالله مَا يُشْبِه الذي يَقُولُ شيئًا من هذا، ووالله، إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يُعلا، وأنه ليحطم ما تحته» [رواه الحاكم. وقال: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط البخاري ولم يخرجاه].

من الشهادات في هذا الباب قول الشيخ (رشيد رضا): «إنّ من أوتي حظًا من بيان هذه اللغة، وفاز بسهم رابح من آدابها حتى استحكمت له ملكة الذوق فيها، لا يملك أن يدفع عن نفسه عقيدة إعجاز القرآن ببلاغته وفصاحته، وبأسلوبه في نظم عبارته. وقد صرّح بهذا من أدباء النصرانيّة المتأخّرين الأستاذ (جبر ضومط) مدرّس علوم البلاغة بالجامعة الأمريكانيّة في كتابه «الخواطر الحسان». وعقّب (الرافعي) على شهادة (رشيد رضا) بقوله: «وصرّح لنا بذلك (بإعجاز القرآن) أديب هذه الملة (النصارى) الشيخ إبراهيم اليازجي الشهير. وهو أبلغ كاتب أخرجته المسيحية. وقد أشار إلى رأيه ذاك في مقدمة كتابه «نجعة الرائد». وكذلك سألنا شاعر التاريخ المسيحي الأستاذ خليل مطران، ولا نعرف من شعراء القوم من يجاريه فأقر لنا بمثل ما أقر به أستاذه اليازجي، والأمر بعد إلى العقل المنصف والعقل «المنصف» ليس له دين إلا الحق، والحق واحد لا يتغير». من كتاب إعجاز القرآن للرافعي.

أمّا الأديب الشاعر المعاصر (نقولا حنا) فقد قاده إيمانه بإعجاز القرآن إلى اعتناق الإسلام، والكتابة في تمجيد هذا الكتاب العظيم بقوله في قصيدته «من وحي القرآن»: «قرأت القرآن فأذهلني، وتعمقت به ففتنني، ثم أعدت القراءة فآمنت.. آمنت بالقرآن الإلهي العظيم، وبالرسول من حمله.. النبي العربي الكريم، أما الله فمن نصرانيتي ورثت إيماني به، وبالفرقان عظم هذا الإيمان… وكيف لا أؤمن ومعجزة القرآن بين يدي أنظرها وأحسها كل حين … هي معجزة لا كبقية المعجزات.. معجزة إلهية خالدة تدل بنفسها عن نفسها، وليست بحاجة لمن يحدث عنها أو يبشّر بها. [نقل ذلك حسن ضياء الدين عتر في كتاب المعجزة الخالدة عن كتاب من وحي القرآن لنقولا حنا]

كما أقرّ بإعجاز القرآن المستشرق (جوزيف شارل ماردروس) في مقدّمة ترجمته لاثنتين وستين من السور الطوال في القرآن بتكليف من وزارة الخارجية والمعارف الفرنسيّة. فقد كتب: «أمّا أسلوب القرآن فهو الأسلوب الخاص بالله. وبما أن الأسلوب يمثّل جوهر الكائن الذي صدر عنه هذا الأسلوب، فلا يمكن أن يكون هذا الأسلوب إلا إلهيًا . والحق الواقع هو أن أكثر الكتاب شكًا وارتيابًا قد خضعوا لسلطان تأثيره… [نقل ذلك وترجمه رشيد رضا في كتاب الوحي المحمدي عن كتاب جوزيف Le Koran qui est la Guidance et le Diffeirenciateur]

وأمّا (فارس الشدياق) (وهو من أبرز علماء العربية النصارى في القرون الأخيرة حتّى وصفه المستشرق (كرنليوس فاندايك) - صاحب أشهر ترجمة عربيّة للكتاب المقدّس المعروفة باسم (ترجمة الفاندايك) ‏- بأنّه: «الأديب الشاعر اللغوي الكاتب البليغ . . ولغته من أحسن ما كتبه المتأخرون نثرًا في اللغة العربية في عصر النهضة الاخيرة» فقد كتب - بعد إسلامه - غاضبًا من جرأة كاتب نصرانى اسمه (رزق الله) أراد معارضة القرآن لنفى إعجازه اللغوي، فقال: «إِنَ هذا السفيه قد أشعر إشعارًا ظاهرًا بأنه قادر على تحدّي القرآن، وهو أعجب شيء من جنونه وهوسه. . . وقد حان الآن أن نظهر جهله باللغة والصرف والنحو وغير ذلك ليعلم فيما قصده من تحدي القرآن أنه مجنون جنونًا مطبقًا». علمًا بأنّ (فارس الشدياق) قد كُلف بإعداد ترجمة عربيّة للكتاب المقدّس النصراني قبل إسلامه، وقد أتمّها ونشرها، غير أن النصارى منعوا تداولها بعد هدايته.

وقد أسلم طائفة من كبراء اليهود إعجابًا بدين الإسلام وعقيدة التوحيد. ومن هؤلاء أسماء كبيرة، لعل أهمها (هبة الله بن علي بن ملكا البغدادي) الملقب ب«أوحد الزمان» الفيلسوف البارز والطبيب الشهير. ومن أبرز أذكياء اليهود الذين أسلموا (السموأل بن يحيى المغربي) العالم بالتوراة والهندسة والرياضيات والفلك والطب والتاريخ‎٠‏ وقد كان والده حبرًا يهوديًا مغرييًا وشاعرًا كبيرًا عدّه (يهوذا الحريزي) أحد أكبر شعراء الأندلس. كتب (السموأل) عن سبب إسلامه في كتابه «بذل المجهود في إفحام اليهود» - الكتاب الذي أثار حفيظة معاصره وأكبر فلاسفة اليهود في القرون الوسطى (موسى بن ميمون) -: ‎«فإني كنت لكثرة شغفي بأخبار الوزراء والكتّاب قد اكتسبت بكثرة مطالعاتي لحكاياتهم وأخبارهم وكلامهم قوّة في البلاغة، ومعرفة بالفصاحة، وكان لي في ذلك ما حمده الفصحاء، وتعجب به البلغاء. .. فشاهدت المعجزة التى لا تباريها الفصاحة الآدميّة فى القرآن، فعلمت صحّة إعجازه».

نبوءات قرآنية

غلبت الروم

{الم (١) غلبت ٱلروم (٢) فی أدنى ٱلأرض وهم من بعد غلبهم سیغلبون (٣) فی بضع سنین لله ٱلأمر من قبل ومن بعد ویومىٕذ یفرح ٱلمؤمنون (٤) بنصر ٱلله ینصر من یشاء وهو ٱلعزیز ٱلرحیم (٥) وعد ٱلله لا یخلف ٱلله وعدهۥ ولـٰكن أكثر ٱلناس لا یعلمون}: جاءت الآيات في صدر سورة الروم تخبر بمجموعة من البشارات:

  1. انتصار الروم على الفرس.
  2. حصول هذا النصر قبل مضي عشر سنوات من إطلاق النبوءة، إذ إن «بضع» في لغة العرب عددٌ بين ثلاثة وتسعة.
  3. المسلمون سيشهدون هذا النصر مما يعني: أنه لن يتم القضاء عليهم في تلك الفترة رغم أنّهم في حال ضعف وحصار شديدين.
  4. المسلمون سيفرحون عند نصر الروم. وقد وافق ذلك معركة بدر أو صلح الحديبية. تحققت كل البشارات السابقة. وصدقت الآية . وقد علق المؤرخ الشهير «إدوارد جيبون» صاحب كتاب «تاريخ انحدار الإمبراطورية الرومانية وسقوطها» على هذه النبوءة القرانية العجيبة بقوله: «في الزمن الذي قيل فيه إن هذه النبوءة قد أطلقت، ما كان لنبوءة أن تكون أبعد منها عن أن تتحقق، إذ إن السنوات الاثني عشر الأولى لهيراكليوس قد أعلنت دنوّ انحلال الإمبراطورية.

تنبيه: شكك بعض المستشرقين في الإعجاز الغيبي في مفتتح سورة الروم بدعوى وجود قراءة بفتح الغين لا ضمها، وأنها هي القراءة الأصلية. والحق أن قراءة “غَلبت” لا تصح لأسباب:

  1. قراءة “غُلِبَت” متواترة، ولا تنهض أحاديث الآحاد لتعارض المتواتر.
  2. قراءة: “غَلَبَت” لا تصح عن (ابن عمر) و(أبي سعيد الخدري) رضي الله عنهما:
    1. الرواية عن (ابن عمر) لا تصح، ففي الإسناد عنه (سفيان بن وكيع)، وحديثه ضعيف، فقد اتهمه (ابن أبي حاتم) بالوضع، وقال فيه (ابن حجر): “ليس بشيء”. وفي الحديث أيضًا (الحسن الجُفري)، وهو (ابن أبي جعفر عجلان الجفري)، وهو ضعيف. ضعفه (أحمد)، وقال فيه (النسائي): “متروك الحديث”.
    2. روى (الترمذي) في جامعه عن “عطية عن أبي سعيد، قال: لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس، فأعجب ذلك المؤمنين، فنزلت: “الم غلبت الروم” إلى قوله: “يفرح المؤمنون”. قال: ففرح المؤمنون بظهور الروم على فارس.” وهي رواية ضعيفة، فمدارها عند (الترمذي) وغيره على “عطيّة العوفي”. قال (المباركفوري): “وفي عطية ثلاثة أشياء: الأوّل أنه مدلس والثاني أنه عند أكثر الأئمة ضعيف، والثالث أنه كان يأخذ التفسير عن الكلبي ويكنّيه بأبي سعيد، فيقول عن أبي سعيد يوهم أنه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه”
  3. قراءة “غَلبت… سيغلبون” لا تستقيم في سياق آيات سورة الروم. قال (الطبري): “ وَأمًّا قَوْلَهُ: “سيغلِبُون”، فَإِنَ الْقرَاءَ أَجْمَعِينَ عَلَى فَتْح الْيَاء فِيهَا، وَالْوَاجِبُ عَلَى قِرَاءَة مَنْ قَرَأ: “الم غَلبت الروم” بفتح الغين أن يقرأ قوْلَه: “سَيُغلَبُون” بضم الْيَاء، فَيَكُون معناه: وَهُمْ من بَعْد غَلَبتهم فارس سيغلبهم المسلمون، حَتَّى يَصِح معنى الْكَلام وَإِلا لم يَكُنْ لِلكلام كثير مَعنى إن فُتِحَت الْيَاء لأن الْخَبَرَ عَمَا قَد كَانَ يَصِيرُ إلى الْخَبَرِ عَنْ أَنَّهُ سَيَكُونُ، وَذَلِكَ إِفسادُ أَحَد الْخَبَرَيْنِ بِالْآخَر”
  4. قال (ابن الجوزي) في سورة (الروم): “وهي مكيّة كلّها بإجماعهم”، بما يمنع أن تكون الآيات قد نزلت عند معركة بدر في العصر المدنيّ.

    رؤيا دخول المسجد الحرام

    { لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءْيَا بِٱلْحَقِّ ۖ لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ ۖ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا۟ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًۭا قَرِيبًا } كان رسول الله قد رأى في منامه أنه دخل مكة هو وأصحابه وطافوا بالبيت، ثم حلّق بعضهم وقَصَّرَ بعضهم‎.‏ فحدّث بها أصحابه ففرحوا واستبشروا. فلما خرج إلى الحديبية مع الصحابة، منع المشركون المسلمين دخول مكة، ووقع ما وقع من قضية الصلح. وعندها وقع في نفس بعض الصحابة من ذلك شيء، حتى سأل (عمر بن الخطاب) رسول الله في ذلك، فقال له فيما قال: «أفلم تكن تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟» قال صلى الله عليه وسلم: «بلى، أفأخبرتك أنك تأتيه عامك هذا؟» قال: «لا». قال النبي: «فإنك آتيه ومطوف به». وبهذا أجاب الصدّيق عنه أيضًا. وقد تحققت الرؤيا - ورؤيا الأنبياء حق - بدخولهم معتمرين العام التالي بعد صلح الحديبية. قال (ابن كثير): «وقوله تعالى : {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا۟ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًۭا قَرِيبًا} أي: فعلم الله من الخيرة والمصلحة في صرفكم عن مكة ودخولكم إليها عامكم ذلك ما لم تعلموا أنتم {فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ} أي: قبل دخولكم الذي وعدتم به في رؤيا النبي {فَتْحًۭا قَرِيبًا} وهو الصلح الذي كان بينكم وبين أعدائكم من المشركين.

    عاقبة أبي لهب

    {تَبَّتۡ يَدَآ أَبِي لَهَبٖ وَتَبَّ (1) مَآ أَغۡنَىٰ عَنۡهُ مَالُهُۥ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصۡلَىٰ نَارٗا ذَاتَ لَهَبٖ (3) وَٱمۡرَأَتُهُۥ حَمَّالَةَ ٱلۡحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبۡلٞ مِّن مَّسَدِۭ (5)} تخبر السورة عن مآل (أبي لهب) وزوجه، وأنهما لن يؤمنا بالإسلام، وسيموتان على الكفر. وقد أسلم كل أهل مكة إلا قله منها (أبو لهب) وزوجه.

    حفظ الله لرسوله

    { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين } { فَٱصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْمُشْرِكِينَ. إِنَّا كَفَيْنَـٰكَ ٱلْمُسْتَهْزِءِينَ } { فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون } تُخبر الآيات السابقة أن الله سبحانه سيعصم رسوله من القتل حتّى يبلّغ ما أنزل إليه من ربّه. وقد كان الرسول يتّخذ الحراس قبل نزول الآية، ولما نزلت صرف حراسه وسرحهم قائلا: «يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله» : وقد عصمه الله في مواطن كثيرة جدَّا. وما توفي حتى أتم البلاغ الذي وُعد بأدائه كاملًا، ونزل قوله تعالى: { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلْإِسْلَـٰمَ دِينًا}.

الإعجاز التاريخي في القرآن

تسمية حاكم مصر: “ملك” أو “فرعون”

إن القرآن الكريم أراد أن يفرق بين حاكم مصر الأجنبي على أيام (يوسف) الصديق في عهد الهكسوس، فأطلق عليه لقب (ملك)، وبين حاكم مصر الوطني على أيام (موسى) - مثلًا - الذي أطلق عليه لقب (فرعون) وهو اللقب الذي كان يطلق على ملوك مصر منذ عهد (أخناتون)، هذا فضلًا عن أن ذلك من إعجاز القرآن الذي لا إعجاز بعده، وإذا ما عدنا إلى التوراة، لوجدنا أن الحقائق التاريخية تقف ضد ما أوردته التوراة بشأن استعمال لقب فرعون، إذ إنها تستعمله حين يجب أن تستعمل لقب ملك، وذلك قبل الأسرة الثامنة عشرة، وتستعمل لقب ملك حين يجب أن تستعمل لقب فرعون، وذلك منذ عهد الأسرة الثامنة عشرة وفيما ‏بعدها. [دراسات تاريخية في القرآن الكريم لمحمد بيومي مهران] لم يُعرف ملك مصر بلقب فرعون إلا منذ حكم أمينوفيس الرابع، أي: في الربع الثاني من القرن الرابع عشر قبل المسيح. كل استعمال لكلمة فرعون للدلالة على ملك مصر قبل هذا العصر هو خطأ تاريخي: ارتكب محررو الكتاب المقدس هذا الخطأ لما كانوا يستعملون لغة زمانهم عند تأليفهم للكتاب المقدس. فى المقابل، فإن استعمال هذه الكلمة للأحداث الأقرب لنا كزمن موسى، هي مطابقة للمعطيات التاريخية. إنه علي أن أعلن أنه في زمن تبليغ القرآن إلى الناس، كانت اللغة المصرية القديمة قد اختفت منذ أكثر من قرنين من الذاكرة البشرية، وبقيت كذلك إلى القرن التاسع عشر، لذلك فليس بإمكاننا أن نعرف أن ملك مصر في زمن يوسف يجب أن يُدعى بلقب غير المذكور في الكتاب المقدس. دقة اختيار الكلمات في هذا الموضوع في نص القرآن تثير التفكير. [Moise et pharaon: les Heibreux en Egypte: quelles concordances des livres saints avec l’his-toire? by Maurice Bucaille]

وسائل التعذيب في زمن فرعون

{ فَأُلْقِىَ ٱلسَّحَرَةُ سُجَّدًۭا قَالُوٓا۟ ءَامَنَّا بِرَبِّ هَـٰرُونَ وَمُوسَىٰ. قَالَ ءَامَنتُمْ لَهُۥ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ ۖ إِنَّهُۥ لَكَبِيرُكُمُ ٱلَّذِى عَلَّمَكُمُ ٱلسِّحْرَ ۖ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَـٰفٍۢ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ ٱلنَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَابًۭا وَأَبْقَىٰ } ذكر القرآن الكريم هاهنا وسائل التعذيب في زمن فرعون، وقد نشر الدكتور (أحمد عبد الحميد يوسف) نصًا ورد فى معبد عمدا من بلاد النوبة المصرية يصوّر وسائل التعذيب في زمان فرعون، وهو يرجع إلى السنة الرابعة من عهد (مرنبتاح) (حوالي سنة ‎1220‏ ق.م)، وهو يؤكّد أنَ (مرنبتاح) قد عذب الناس بقطع من خلاف وصلب. [نقله محمد بيومي مهران في دراسات تاريخية في القرآن الكريم]. والسؤال الذي نواجه به المنصّرين هو: لِمَ يورد القرآن هذه الواقعة ويعقبها بذكر حقيقة تاريخية ما كان يعلمها الناس في القرن السابع الميلادي ولم ترد فى التوراة إلا أن تكون وحيًا من الحقّ سبحانه؟

إخبار القرآن بحقائق علمية لم تُثبت إلا بعد زمن طويل

{ أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما } قال (ابن كثير): «كان الجميع متصلًا بعضه ببعض، متلاصق متراكم بعضه فوق بعض في ابتداء الأمر، ففتق هذه عن هذه‏ فجعل السموات سبعًا، والأرض سبعًا». وقد صحّ تفسير الآية بفصل السماء عن الأرض عن التابعي الجليل المفسر (قتادة السدوسي)، والتابعي الجليل (الحسن البصري). [تفسير الطبري]

وصف القرآن الكريم الجبال أنّها مثل الوتد، والوتد قطعة من الخشب أو الحديد تغرز في الأرض لتشدّ نفسها، ويكون جزؤها الأكبر مخفيًا تحت الأرض. فالوتد فى (لسان العرب) هو: «ما رُز فى الحائط أو الأرض من الخشب والجمع أوتاد». ‏يشهد العلم الحديث اليوم على دقة هذا الوصف العجيب للجبال، والذي لم يُعرف إلا في الزمن المتأخر بعد دراسات جادة من العلماء المتخصصين، حتى قال الجيولوجي (سيمون لامب): «كان اكتشاف أن للسلاسل الجبليّة جذورًا عميقة [في الأرض] واحدًا من أكبر الاكتشافات الجيولوجيّة في القرن التاسع عشر وبداية العشرين» [Robert Dinwiddie; Simon Lamb and Ross Reynolds, Violent Earth].

هيمن الاعتقاد بأن دم الحيض أساسي في تكوين الجنين على الطب اليهودي والنصراني واليوناني والهندوسي، وكان الاتفاق بينهم حاصلًا على ذلك. ومن العجيب أنَ الفهم اليهودي‏ النصراني ‏ الأرسطي قد بقي مهيمنًا على الساحة العلميّة حتى قرون بعد البعثة في بلاد المسلمين، حتى قال الإمام (ابن حجر): «وزعم كثير من أهل التشريح أن مني الرجل لا أثر له في الولد إلا في عقده، وأنّه إنّما يتكون من دم الحيض، وأحاديث الباب تبطل ذلك».

نبوءات نبوية

  1. الإخبار عن استشهاد (عمر) و(عثمان): حدّث (أنس) «أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أحدًا وأبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم، فقال: «اثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان». [رواه البخاري]
  2. الإخبار أن الرسول سيموت في مرضه الأخير، وأنَ ابنته أوّل من يموت من أهله بعده: روت (عائشة) أن النبي دعا «فاطمة ابنته في شكواه الذي قبض فيه، فسارّها بشيء، فبكت، ثم دعاها فسارّها‎،‏ فضحكت. قالت: فسألتها عن ذلك. فقالت: سارّني النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرني أنه يقبض في وجعه الذي توفي فيه، فبكيت. ثم سارني فأخبرني أنّي أوّل أهل بيته أتبعه فضحكت». [رواه البخاري ومسلم]
  3. الإخبار عن قتل قادة المعركة على الترتيب، وعن آخر من يحمل الراية: عن (أنس) أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى (زيدًا) و(جعفرًا) و(ابن رواحة) للناس قبل أن يأتيه خبرهم، فقال : «أخذ الراية (زيد)، فأصيب، ثم أخذ (جعفر)، فأصيب، ثم أخذ (ابن رواحة)، فأصيب وعيناه تذرفان حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم». [رواه البخاري]
  4. الإخبار الدقيق عن الأماكن التي يُقتل فيها الكفّار عند معركة بدر: قال (أنس): «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا مصرع فلان. قال: ويضع يده على الأرض، هاهنا هاهنا قال: فما ماط أحدهم عن موضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم». [رواه مسلم]
  5. ‏الإخبار عن سوء خاتمة مقاتل في صفّه: روى (سهل بن سعد الساعدي) أن رسول الله التقى هو والمشركون، فاقتتلوا. فلمًا مال رسول الله إلى عسكره، ومال الآخرون إلى عسكرهم، وفي أصحاب رسول الله رجل لا يدع لهم شاذة ولا فاذة إلا اتبعها يضربها بسيفه. فقال: ما أجزاً منا اليوم أحد كما أجزأ فلان. فقال رسول الله: «أما إنّه من أهل النار». فقال رجل من القوم: أنا صاحبه. قال: فخرج معه كلما وقف وقف معه، وإذا أسرع أسرع معه. قال: فجرح الرجل جرحًا شديدًا، فاستعجل الموت، فوضع نصل سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل على سيفه، فقتل نفسه. فخرج الرجل إلى رسول الله: فقال: أشهد أنك رسول الله». [رواه البخاري ومسلم]
  6. الإخبار عن الصلح العظيم الذي سيجريه (الحسن بن علي) بين المسلمين بعد الفتنة، قال صلى الله عليه وسلم: «ابنى هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ الله أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بين فئتين مِن الْمُسْلِمِينَ». [رواه البخاري] وقد كان ذلك في الصلح بين طائفة (علي) وطائفة (معاوية).
  7. الإخبار عن غزو البحر في جيل الصحابة، وعن مشاركة (أم حرام) فيه: قالت (أمّ حرام): «سمعت النبي يَقُول: أول جَيْش من أمتي يَغْزونَ الْبَحْرَ قَدْ أَوْجَبُوا. قالت أم حَرَام: قُلْتُ: يا رَسُولَ الله، أنَا فيهم؟ قَالَ: أَنْتِ فِيهِمْ. ثم قَالَ النبي: أول جيش مِنْ أمّتي يَغْزونَ مَدِينَة قيصر مغفور لهم. فقلت: أنا فيهم يا رسول الله: قال: لا». [رواه البخاري ومسلم]
  8. الإخبار عن غنيمة مال كسرى: قال (جابر بن سمرة): سمعت رسول الله يقول: «لتفتحن عصابة من المسلمين - أو من المؤمنين - كنز آل كسرى الذي فى الأبيض». [رواه مسلم]‏
  9. قال الرسول: «لن تقوم الساعة حتى… تعود أرض العرب مروجًا وأنهارًا». وقال: «يوشك يا معاذ إن طالَتْ بك حياةٌ أنْ تَرَى ما ههنا قد مُلِئ جنانًا». [رواه مسلم] ‏أجرى الشيخ (عبد المجيد الزنداني) مقابلة مع البروفسور (الفريد كرونير) - من أشهر علماء الجيولوجيا في العالم وقد حضر مؤتمرًا جيولوجيًا في كلية علوم الأرض في جامعة الملك عبد العزيز حول عودة الجزيرة العربية مروجًا وأنهارًا… المقابلة معروضة في الكتاب.
  10. قال الرسول عن علامات الساعة: «وَأَنْ تَرَى الحفاة العراة الْعَالَة رِعَاء الشاءِ يتَطَاوَلُونَ فى البنيان» [رواه مسلم]. أدى الكشف المفاجئ لثروات البترول والغاز في بلاد الخليج العربي إلى طفرة اقتصاديّة سريعة، فكان أن ظهر في نفس عمر الجيل الذي كان يرعى الأغدام التطاول في البنيان وناطحات السحاب، حتّى إنّ أعظم ناطحات السحاب فى العالم موجودة فى الصحراء العربيّة. فالنبوءة تخبر بالخير المادي الذي يصيب الفقراء من رعاة الغنم فينقلهم إلى فاره البنايات العالية.
  11. عن (عبد الله بن عمرو): «تخرج معادن مختلفة معدن منها قريب من الحجاز يأتيه من شرار الناس» [رواه الحاكم وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه].
  12. قال الرسول: «لا تقوم الساعة حتى يكون القرآن عارًا، ويتقارب الزمان» [قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني ورجاله ثقات وفي بعضهم خلاف]. واليوم إذ دعا الرجل إلى إقامة الحياة على القرآن، اتهم بالتطرّف والتنطع والظلاميّة والرجعيّة. وزماننا نفسه تقارب فيه العالم،‏ حتى صرنا نعلم خبر أقصى الأرض في لحظة وقوع الأمر حتى كأننا نشهده في مكانه.
  13. قال الرسول: «لا تقوم الساعة حتى تَخْرج نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى» [رواه البخاري ومسلم]. ظهرت هذه النار سنة 654هـ. قال (ابن كثير): «ثم دخلت سنة أربع وخمسين وستمائة، فيها كان ظهور النار من أرض الحجاز التي أضاءت لها أعناق الإبل بِبُصرى، كما نطق بذلك الحديث المتفق عليه وقد بسط القول في ذلك الشيخ الإمام العلامة الحافظ شهاب الدين أبو شامة المقدسي في كتابه «الذيل» وشرحه». وقال (الذهبي) : «أمر هذه النار مُتواتِر، وهي مما أخبر به المصطفى حيث يقول: «لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء لها أعناق الابل ببصرى». وقد حكى غير واحد ممَّن كان بِبُصرى في الليل، ورأى أعناق الإبل في ضوئها».

متفرقات

عيش غير المسلمين في بلاد الإسلام: لقد أصاب الجو العلمئّ الإسلامئ المتميّز بالانفتاح والتحفيز على التفكير اليهود بوهجه، فنقلهم إلى عصرهم الذهبي في ظلّ دولة الإسلام. وفي ذلك كتب الرحّالة اليهودي (بنيامين التطيلي) في القرن الثاني عشر الميلادي متحدنًا عن يهود بغداد: «يوجد في بغداد حواليّ أربعين ألف يهوديٌّ، وهم يعيشون في أمان وازدهار، محفوظي الكرامة تحت سلطان الخليفة العظيم، ومن بينهم حكماء كبار». وأثنى بكلمات بليغة على الخليفة العبّاسي، حتى قال عنه: إنّه كان «محسنًا للإسرائيليين وكثيرٌ من زواره من الإسرائيليين».

فضل المسلمين في تأسيس العلم التجريبي: يقول (روبير بريفو) في كتابه «بناء الإنسانية»: «لقد تعلّم روجر بيكون من خلفاء [مسلمي إسبانيا] في جامعة أوكسفورد اللغة والعلوم العربيّة. لم يكن لروجر بيكون ولا سميّه المتأخر عنه أيّ حقّ في أن يُنسب إليهما الفضل في ابتكار المنهج التجريبي. لم يكن روجر بيكون أكثر من رسول من رُسل علم المسلمين ومنهجهم إلى أوروبا المسيحيّة». مقرّرًا أنّه لا يوجد جانب واحد من جوانب الترقّي الأوروبي لا يمكن الكشف عن الأصل الحاسم للثقافة الإسلامية فيه ومؤكدًا أن العلم الطبيعي والروح العلمية هما أبرز أوجه تأثير الإسلام في أوروبا المعاصرة. أما مؤْرّخ العلوم (جورج سارتون) فقد أقر أن أهم إنجاز في القرون الوسطى هو خلق الروح التجريبيّة. ورد ذلك أساسًا إلى جهد المسلمين حتى القرن الثاني عشر. وقد ذكرت سيجريد هونكه في كتابها «شمس العرب تشرق على الغرب» تفاصيل مثيرة عن أثر الحضارة الإسلامية على الثقافة والحياة العمليّة الأوروبيّين، بدءًا من «ثقافة الاستحمام»، إلى علوم الطبّ والفلك والرياضيات التي قرّرت فيها أَنْ المسلمين «وليس اليونان هم أساتذة أوروبا في النهضة العلميّة الرياضية» . وانتهت إلى القول: «… نعم إن العرب هم مخترعو العلوم التطبيقية والوسائل التجريبية بكل ما تدل عليه هذه العبارة. والعرب هم المخترعون الحقيقيون للأبحاث التجريبية!».

ممن شهد من أعلام الفكر من الغرب من النساء على عظمة الإسلام في باب تحرير المرأة من أثقال الأفكار الجاهليّة (كارن أرمسترونغ) إذ قالت: «كان النساء من أوائل المؤمنات بمحمد. كان تحريرهن مشروعا يملك قلبه. حرِّم القرآن بطريقة حازمة قتل المواليد الإناث، ووبّخ العرب على فزعهم عندما كانت تولد أنثى. وأعطى النساء أيضًا حقوقًا قانونيّة في الميراث والطلاق لم يملك جل النساء الغربيات شيئًا شبيهًا بها حتى القرن التاسع عشر. شجّع محمد النساء أن يلعبن دوزًا إيجابيًا في شؤون الأمة، وقد عبرن عن آرائهن بصراحة في ثقة أنه سيسمع لهن».

شهد المستشرق (غوستاف لو بون) في حديثه عن فتح «العرب» للهند أَن الفاتحين قد ألانوا قلوب الناس إلى الإسلام بحسن ملكهم، وأن أهل الهند قد أقبلوا على الدين الوافد عن طيب خاطر لا عن خوف من بارقة السيوف. [La Civilisation des Arabs]

من عاش تجربة الاقتراب من الموت شهد أنه رأى أو سمع أو التقى بأشخاص يمنع استلقاؤه في المشفى فاقدًا للوعي أن يدركها، ومن ذلك أن أحد العميان رأى ما أحاط به لما كان فاقدًا الوعي أثناء التجربة، وامرأة تصف خروج روحها ورؤيتها حذاء أزرق فوق سقف المستشفى, ثم بارتقاء السقف وجد الحذاء نفسه، وأخرى أجريت لها عملية على دماغها وهي فاقدة للوعي وعيناها مغلقتان، ثم هي تصف بعد ذلك تفاصيل العملية والآلات (التي كانت مغطاة) وحوارات الأطباء. ومن المهم هنا الإشارة إلى أن هذه الظاهرة العجيبة قد قادت أكاديميين ملاحدة إلى الإيمان بالله واليوم الآخر بعد اقتناعهم أن الإنسان أكثر من مادة، ومن هؤلاء (ريموند أ. مودي) و(بِم فان لومل). وهي التجربة التي جعلت الفيلسوف (أ. ج. آير)‏ رأس إحدى أهم المدارس الفلسفية الإلحادية في القرن العشرين‏ يقول بعد تجربته الخاصة إثر توقّف قلبه عن النبض لمدة أربع دقائق: «تجاربي القريبة أضعفت بصورة قليلة قناعتي أن موتي الحقيقي - والذي سيكون قريبًا - هو نهايتي). فهو على عناده أقرّ بأثر التجربة فيه. [Gary Habermas & J.P. Moreland, Beyond Death: Exploring the Evidence for Immortality و Jeffrey Long and Paul Perry, Evidence of the Afterlife: The Science of Near-Death Experiences وJ. Steve Miller, Near-Death Experiences as Evidence for the Existence of God and Heaven]

لقد نظرنا في كتابنا هذا في السيرة المحفوظة لنبي الإسلام، فإذا هي دالة بشهادة الصديق والخصيم على نبوته، ولا سبيل لرد ذلك إلا بإنكار صدق هذا المحفوظ، ولذلك عرضنا منهجيّة توثيق السيرة على سُنَّة علماء الحديث، ومنهج المخالفين، فاستبانت لنا عبقريّة منهج الأوّلين، ولم نسمع من المنكرين غير همهمات للمستشرقين لا تكاد تبين، وهي شكوك ووساوس لم تنتظم في منهج علمي متين.
قبسات من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم: ص116-119 + ص124.

شبهات المنصرين: كثيراً ما يستدلون بالضعيف أو الموضوع من الروايات. وجهلهم باللغة جعلهم يأتون بالعجائب. والتدليس في عرض الخبر التاريخي فمثلاً يعرضون قضية قتل الرسول صلى الله عليه وسلم للذكور البالغين من بني قريظة متغافلين عن ما استدعى ذلك وهي الخيانة العظمى التي كادت تودي بأمة الإسلام لو نجحت في مسعاها، ويتجاهلون أن طابع المسامحة والعفو كان الأصل في فعل النبي صلى الله عليه وسلم وخير مثال عفوه عن أهل مكة الذين آذوه كثيراً عند الفتح.

قول المستشرقة (لورا فيشيا فاغليري) في الرد عن اتهام النبي صلى الله عليه وسلم بالشهوانية لزيجاته المتعددة: أنه طوال سنين الشباب حيث تكون الغريزة الجنسية أقوى ما يكون، وعلى الرغم من أنه عاش في مجتمع كان تعدد الزوجات فيه هو القاعدة، وكان الطلاق سهلاً، لم يتزوج إلا من امرأة واحدة لا غير، ولم يتزوج ثانية إلا بعد أن توفيت خديجة، وإلا بعد أن بلغ الخمسين من عمره. لقد كان لكل زيجة من زيجاته سبب اجتماعي أو سياسي.. وباستثناء عائشة تزوج من نسوة لم يكن عذارى ولا شابات ولا جميلات… ص138.